طالما طالبنا بضرورة تقنين الأحوال الشخصية لتباين الأحكام القضائية بين قضية وأخرى مماثلة لها ،فهناك قضاة جدد، وقضاة متشددون، وقضاة معتدلون، وقضاة يغلبون الأعراف والعادات والتقاليد ، وقضاة ينحازون للرجل ضد المرأة ، إلى جانب الأخذ بمذهب واحد هو المذهب الحنبلي، فمبعث المطالبة بالتقنين، هو اعتماد الاعتدال في الأحكام القضائية بعيداً عن التشدد والانحياز وغلبة الأعراف والعادات والتقاليد، واستبعاد الأحكام الفقهية المبنية على مفاهيم خاطئة لآيات قرآنية، وأحاديث نبوية ضعيفة ومنكرة وشاذة وموضوعة لاتفاقها مع الأعراف والعادات والتقاليد ، مع الأخذ بالمذاهب الأربعة ،والاجتهاد في الأحكام بما يتناسب مع العصر الذي نعيشه، فمن الأمور المتفق عليها اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان، ولكن عندما نقرأ النظام الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون الخليجية التي اعتمدها وزراء العدل لدول مجلس التعاون عام 1418هـ / 1997م نجد فيها بعض التناقضات والقصور مع غلبة العرف على الشرع في بعض موادها، والانحياز للرجل في مواضع، مع غلبة المذهب الحنبلي وتحتاج إلى إعادة نظر في تلك المواد وتعديلها قبل اعتمادها للعمل بها .
أولاً: المتناقضات:
المادة الرابعة من هذا النظام تعرف الزواج بأنَّه عقد شرعي، بين رجل وامرأة، غايته الإحصان وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوج، على أسس تكفل لهما تحمل أعبائها بمودة ورحمة» والمواد 7، 8، 9 ،10 تتناقض مع هذا التعريف ،فالمادة 7 تجيز زواج المجنون والمعتوه بشروط قبول الطرف الآخر التزوج منه بعد اطلاعه على حالته، وكون مرضه لا ينتقل منه إلى نسله ،وكون زواجه فيه مصلحة له، ويتم التثبت من الشرطين الأخيرين بتقرير لجنة من ذوي الاختصاص، فهذه الشروط لا تحقق إنشاء أسرة مستقرة برعاية زوج مجنون ، أو معتوه !
فهل المطلوب مراعاة مصلحة المجنون؟ وأية مصلحة للزوجة عند زواجها بمجنون؟
والمادة (8) تجيز زواج المحجور عليه لسفه بشرط موافقة وليه والتأكد من ملاءمة الصداق لحالته المادية ، فإذا امتنع الولي طلب القاضي موافقته خلال مدة يحددها له، فإن لم يعترض أو كان اعتراضه غير جدير بالاعتبار زوجه القاضي.وهذا يعني أنَّه غير مكتمل الأهلية ، فكيف يتحقق الاستقرار والرعاية لأسرة ،والزوج سفيه غير مكتمل الأهلية؟
والمادة (9) تعطي لمن أكمل الخامسة عشرة من عمره حق الزواج ، وإن امتنع وليه عن تزويجه جاز له رفع الأمر إلى القاضي، ويحدد القاضي مدة لحضور الولي يبين خلالها أقواله فإن لم يحضر أصلاً أو كان اعتراضه غير سائغ زوجه القاضي. هذه المادة لا تتفق مع واقع حياتنا المعاصرة ،فابن الخامسة عشرة يعد طفلاً ،قاصراً لم يبلغ سن الرشد الذي حدده هذا النظام بسن 18 سنة في مادته ال (137)،وقد عرَّفت المادة (138)القاصر بالذي لم يبلغ سن الرشد ويعتبر في حكمه: الجنين والمجنون والمعتوه وذو الغفلة والسفيه والمفقود والغائب، فهل زواج القاصر سوف يحقق أسرة مستقرة برعاية الزوج وهو لا يستطيع تحمل أعباء الحياة الزوجية من مسؤولية رعاية وإنفاق، فهو في مرحلة التعليم المتوسط ،مع ملاحظة أنَّ سن الزوجة سيكون أقل من خمسة عشر عاماً ،أي أنَّ الأبويْن طفلان قاصران لم تكتمل تربيتهما ،فكيف سيربيان أبناءهما ؟ ثمَّ أنَّ هذه المادة تجيز زواج القاصرين والقاصرات، وهذا يتناقض مع اتفاقية حقوق الطفل التي وقعَّت عليها دول مجلس التعاون، وأصبحت ملزمة بتنفيذها في أنظمتها وقوانينها ،فكيف تصدر نظاماً يناقضها؟
وكيف يصح زواج المعتوه والمجنون وهو غير متوفر فيه شرطا الأهلية والكفاءة، ولم يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه أقر زواج المجنون والمعتوه ،وقياس زواج المعتوه والمجنون بزواج الصغير قياس خاطئ ،لأنَّ الصغير يكبر ،ويصبح كامل الأهلية ،أمَّا المعتوه والمجنون فسيظلان على وضعهما، وإن قيل إنَّ المجنون قد يشفى من جنونه ، فهنا أقول : إن شفي فليتزوج ،ولكن لا يتزوج وهو مجنون، فأية منفعة للأمة بتشريع زواج المجنون والسفيه والمعتوه؟
ولعل من رفعة الإسلام وعلو شأنه أنّه خاطب العقل بالدرجة الأولى، ومحور الارتكاز على العقل التكليف، وهو صلاحية الإنسان لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتد به شرعاً، وأساس ثبوتها التمييز.
وللتكليف شروط شرعية منها: أن يكون المكلف قادراً على فهم دليل التكليف، لأنّ التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال ،والمجنون والمعتوه غير مكلفين لعدم قدرتهما على فهم أصل الخطاب، وأن يكون المكلف أهلاً للتكليف، والأهلية لغة : هي الصلاحية. وهذا ما يجعل من تشريع زواج المجنون والمعتوه والسفيه والمحجور عليه في قانون الأحوال الشخصية الموحد لدول مجلس التعاون مثيراً للكثير من الاستغراب والدهشة. ووفقاً للقاعدة الفقهية (اليقين لا يزول بالشك) فإنّ ضرر الحاضر من هذا الزواج مؤكد في جميع الأحوال حيث التعامل مع حالات مثل الجنون والعته والسفه يشكل معاناة ،فكيف الحال إذا كانت في ظل معيشة زوجية يفترض منها الدوام!
ثانياً: مخالفة أنظمة دول المجلس:
1.مخالفته للأنظمة السعودية التي تنص على أنّ سن الرشد هو 18 سنة ،ولكن المادة (150) تخالف هذا النظام بإعطاء القاضي حق ترشيد القاصر إذا تم الخامسة عشرة من عمره، وثبت حسن تصرفه.
2. بتحديده سن أدنى زواج الفتى 15 عاماً ،وإعطاء الفتى حق طلب من القاضي تزويجه إن امتنع وليه عن ذلك خالف قانون الأحوال الشخصية العُماني الذي حدد سن 18 سنة كحد أدنى لزواج الفتى والفتاة ، فقد نصت المادة السابعة منه على أن : « تكتمل أهلية الزواج بالعقل وإتمام الثامنة عشرة من العمر « هذه الأهلية الكاملة يقصد بها أهلية الرجل والمرأة.،وخالف فقرة (أ) من المادة العاشرة التي تنص على أنّه « إذا طلب من أكمل الثامنة عشرة من عمره الزواج وامتنع وليه عن تزويجه جاز له رفع الأمر إلى القاضي»
للحديث صلة.